[size=24]يوم من أيام الله (موهاج) التي لم ينسها الغرب
في ظلال العثمانية ... درع الإسلام المفقود.[/size]
د. عبد الحميد الدخاخني
إذا ذُكرت الدولة العثمانية (دولة الخلافة الأخيرة) عند كثير من المثقفين وأنصاف المثقفين بادروك بالقول بأن الدولة العثمانية هي سبب المصائب والتخلف الذي نحن فيه غارقون، كما أنها السبب الأول في تدهور قوتنا وابتعادنا عن روح العصر وتحدياته، ولم يعطوا لأنفسهم فرصة للتثبت مما دسه وروجه أساطين ودهاقنة الشر وأعداء وحدة الأمة وتقارب المسلمين.
وللحق فإن تاريخ العثمانيين ليس هو تاريخ الملائكة المنزلين ولا تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين، ولكنه تاريخ إسلامي مشرف ينبغي لكل أجيالنا أن تعرفه وتتمثله؛ فتاريخنا الحالي مرهون بالماضي؛ فلننطلق ليوم من أيام الله؛ حيث كانت الدولة العثمانية درع الإسلام وسيفه الذي سلَّه الله للفتح وردع المعتدين؛ حيث كان الإسلام حياً في النفوس، وعلى أساس الإسلام تبنى الدولة في كل شؤونها؛ فلننطلق لعصر السلطان (سليمان القانوني) الذي لا يعرف شبابنا عنه معشار ما يعرفونه عن نابليون وأمثاله.
تولى السلطان (سليمان) عرش الخلافة العثمانية في عام 1520م، بعد أن ورث أباه السلطان (سليم الأول) فاتح مصر والشام، والذي كان يسعى لإنشاء دولة إسلامية واحدة تمتد من أواسط آسيا إلى غرب أوروبا، ولكنه لم يتمكن من تحقيق ما أراد.
وفي السنة الأولى من حكم السلطان سليمان 1521م فتح جزيرة رودس التي كانت شجا في حلوق المسلمين، وكان بها أشد الصليبيين حنقاً على الإسلام وإيذاءً لأهله في البر والبحر. كانت رودس تحت حكم (فرسان القديس يوحنا) الذين عُرفوا في كتب التاريخ الإسلامي باسم فرسان المعبد (الداوية)، وكان الهجوم العثماني كما هي العادة قوياً وخاطفاً؛ حتى إن الغرب لم يشعر إلا وقد فتح المسلمون رودس، وكانت بحق قلعة الصليبيين في شرق البحر المتوسط تهدد شواطئ الإسلام وسفنه التجارية [ظلت طرابلس ليبيا تحت حكم الفرسان الصليبيين هؤلاء مدة سبعين سنة حتى طردهم منها العثمانيون].
وفي السنة الثانية 1522م قام السلطان الخليفة (سليمان القانوني) بفتح بلغراد أحد أهم مدن المجر آنذاك وهي من قلاع أوروبا الوسطى القوية، وتشتهر بحصانتها ومتانة أسوارها، وقد صدت أسوارها المنيعة الهجوم العثماني المتعدد عليها منذ عهد السلطان (محمد الفاتح)، ولكن الله قد ادخر هذا الفضل للسلطان سليمان القانوني الذي كانت أوروبا كلها تطلق عليه اسم سليمان المُعظَّم أو الفخم (Suliman the magnificent)، ولا ينبغي أن ننسى دلالة هذا الاسم في وقت كان الغرب كله يدور حول الكنيسة ووصفها للمسلمين بالكفرة الذين يعبدون محمداً -صلى الله عليه وسلم - ، ويملأ الغيظ والحقد قلوبهم عند ذكر اسم مسلم.
في السنة السادسة من حكم السلطان سليمان 1526م، كان الغرب الأوروبي يتشكل ككتلة عجيبة، كان أقوى ملك في أوروبا هو شارل الخامس (شارل كوان) وهو حفيد فرديناند وإيزابيلا اللذين قاما بطرد المسلمين من الأندلس، وقالت أم الملك المسلم الغرناطي الأخير أبي عبد الله الصغير الذي بكى حين رحلت به السفينة عن بلاده؛ قالت له أمه: أجل! ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال. ولكن الله لا يتخلى عن هذه الأمة، ولن يجعلها عاقراً من رجال صادقين؛ فلننظر بعدها بقليل ماذا حدث.
كان الملك الأسباني شارل الخامس يحكم كل أسبانيا وبعض البلدان في الأراضي الواطئة (من هولندا وبلجيكا وجوارهما) ونصف إيطاليا الحالية، ويحكم أخوه باسمه كل النمسا وألمانيا، وكانت أخواته متزوجات من ملوك: فرنسا، المجر، بولندا، وليتوانيا (وكانت دولة قوية متسعة) والسويد، وهكذا تهيأت أوروبا لتكون مسرحاً قوياً لحرب الإسلام وشوكة تهديد واستعمار لكل الشمال الإفريقي وأغلب بلاد العالم المعروف آنذاك؛ حيث كانت حركة الكشوف الجغرافية الصليبية التي أرادت خنق الإسلام في بلاده قد آتت ثمارها البغيضة القاسية، ولكن هكذا دبَّر الله قوانين الكون على أن يكون لكل مجتهد نصيب؛ فليجتهد المسلمون حتى لا يكونوا هم المفعول به دائماً، والله قد أراد المسلم فعّالاً إيجابياً لا كمّاً مهمَلاً.
رأى السلطان سليمان وإدارته أن أخطر حلقة في هذا العقد الجهنمي الذي يتكون في أوروبا هي دولة المجر التي تجاور الدولة العثمانية وتصل حتى حدود البوسنة حالياً؛ حيث كان ملك المجـر (لايـوش الثاني) بلا وريث؛ فإذا مات أو قُتل فسرعان ما تؤول مملكة المجر الضخمة لهذا الحلف الأوروبي المتناسق.
وكان القرار أنه لا بد من فتح المجر وضمها أو أغلبها للخلافة العثمانية أو تولية من يحفظها من الانضمام للغرب الأوروبي ويتبع الدولة العثمانية حتى لا تكون مصيبة على المسلمين.
في ذلك الوقت كانت الحملات العثمانية لا تستطيع أن تخوض المعارك في أوروبا إلا في أشهُر الصيف وخاصة يونيو ويوليو وأغسطس، ولكن السلطان سليمان خرج بجيشه البالغ تعداده مائة ألف جندي في شهر إبريل من عاصمة ملكه (إستانبول) وخرج معه مئات من السفن العثمانية النهرية الرفيعة تسير في الدانوب وتوصل المؤن للجيش المجاهد، وكان من تجهيزات الجيش العثماني المجاهد ثلاثمائة مدفع؛ ففي ذلك الوقت كان المسلمون هم من يمتلكون أحدث الأسلحة، نعم! كنا نحن الذين نمتلك التقنية المتفوقة والتكتيكات الحربية الرائدة، وبينما لم يكن الأوروبيون الصليبيون يستعملون المدافع في الحروب كانت الدولة العثمانية تستعمل هذا السلاح بحذق ومهارة شديدين كما سنرى.
وصل السلطان إلى نهر الدانوب (الطونة بالعثمانية) وكان أحد مشكلات الحملات العثمانية في أوروبا لسعته وتياراته وصعوبة عبوره. أمرالسلطان ببناء جسر حجري لعبور الجيش، فتم بناؤه في أربعة عشر يوماً، فعبر الجيش المجاهد عليه في أربعة أيام، ولما تم العبور بسلام، أصدر السلطان أمراً عجيباً؛ إذ أمر بهدم الجسر بنار المدفعية. أتعرف ما معنى هذا؟ إنه يعلن لكل الجنود أننا لن نعــود منهــزمين ومتعجلـين: إما النصر، فلا مشكلة في إعادة بنائه، وإما الشهادة فما عند الله خيرٌ وأبقى!
بعد عبور النهر صعد السلطان إلى بلغراد التي كان قد فتحها منذ أعوام قليلة، واستقبل تهنئات وتبريكات عيد الفطر في بلغراد، ثم واصل صعوده في أوروبا الوسطى حتى سهل (موهاج) المجري، ويقع جنوب شرق العاصمة بوادبست بحوالي مائة وثمانين كيلو متراً، وكان الجيش المجري من أفضل جيوش أوروبا الصليبية في ذلك الوقت، وتعداده مائتا ألف فارس ومقاتل، منهم أربعون ألفاً من أفضل القوات الألمانية المختارة، وفوق كل ذلك كان هناك الحماس الغربي الصليبي المتقد. كثير من المسلمين اليوم يظن أن الحملات الصليبية هي الحملات التسع المشهورة على البلاد العربية فقط، ولا يعلمون أن الدولة العثمانية صدت منذ القرن الرابع عشر الميلادي ما يزيد على خمس وعشرين حملة صليبية دموية. رحم الله العثمانيين؛ فقد كانوا درعاً للإسلام!
كان الجيش المجري يدافع عن دولة عريقة وسلالة حاكمة قديمة؛ فالعرش المجري كان عمره ثمانياً وثلاثين وستمائة سنة كاملة؛ فهي إمبراطورية راسخة، وكان الفرسان المجريون مشهورين بشجاعتهم وبسالتهم وشدة بأسهم.
تدارس القادة العثمانيون الأكفاء مع السلطان الخطة التي ينبغي عليهم سلوكها، وقد أخبرت فرق الاستطلاع أن السهل محاط بمستنقعات واسعة من بقايا أمطار الصيف؛ ففي أوروبا الوسطى تمطر السماء صيفاً أيضاً.
أراد العثمانيون أن يستفيدوا من هذه المستنقعات، فرسموا خطتهم بحيث يستدرجون الفرسان المجريين إلى مدى المدافع مع الحفاظ على كتل الجيش المجري بدون انتشار حتى تستطيع المدافع إصابتهم بأعنف الضربات وأكثرها مفاجأة.
وكانت الخطة أن ينقسم الجيش العثماني كالعادة إلى ميمنة وميسرة وقلب؛ ففي القلب يقف السلطان مع أفضل الجنود وأشجعهم وهم الإنكشارية (الجند الجديد) والذين كانوا رعب أوروبا لما يقرب من ثلاثة قرون، ويكون وقوف السلطان براياته وعلاماته أمام المدافع حتى إذا اندفعت القوات المجرية إلى ساحة الوغى وتوجهوا لقلب الجيش الإسلامي واقتربوا، عندئذ تتراجع صفوف الإنكشارية والسلطان إلى ما خلف المدافع، ثم تطلق المدافع بأقصى طاقتها، حتى إذا تشتتت الصفوف المجرية اندفع جناح الجيش الإسلامي ودفع ما تبقى من القوات المجرية إلى المستنقعات.
كانت التوقيتات في التواريخ العثمانية بأوقات الصلاة. دخل السلطان عند صلاة الصبح كذا، وبعد صلاة العصر فعل كذا وكذا.
لبس السلطان درعه في صلاة الصبح، ثم دخل إلى صفوف الصاعقة وهي القوات المسلمة القادمة من إمارات القرم والبحر الأسود الذي ظل بحيرة إسلامية حتى نهايات القرن الثامن عشر الميلادي ـ وكانت هذه القوات ـ الخيالة ـ تقوم بمرافقة الحملات العثمانية النظامية في أوروبا وروسيا، فيقومون بالغزو والجهاد متساندين يدعم بعضهم بعضاً [هذا في أيام التخلف والرجعية (زعموا)... إلخ] ـ وكان الدور الأساسي لفيالق الصاعقة هو حماية طرق اقتراب وسير الجيش العثماني وكذلك الاستطلاع وجلب الغنائم والأسرى وضرب عمق العدو.
كان السلطان الخليفة على رأس جيشه المجاهد في الميدان، كذلك كان الملك المجري على رأس جيشه الصليبي في الميدان ذاته ساعات.. ويتقرر مصير الأمتين والملكين.. هل سواء من كان في سبيل الله ومن كان في سبيل الطاغوت؟ بات المسلمون يقرؤون القرآن ويذكرون الله ويهللون ويكبرون (كانت أناشيد الجيش مليئة بالدعاء والتكبير حقيقة) ويذكِّرهم الدعاة والعلماء بفضل الجهاد وما أعد الله للشهداء.. وبات المجريون يدقون النواقيس ويحرضهم القساوسة والرهبان للدفاع عن الصليب وأوروبا ضد المسلمين الفاتحين.
آمين.
في ظلال العثمانية ... درع الإسلام المفقود.[/size]
د. عبد الحميد الدخاخني
إذا ذُكرت الدولة العثمانية (دولة الخلافة الأخيرة) عند كثير من المثقفين وأنصاف المثقفين بادروك بالقول بأن الدولة العثمانية هي سبب المصائب والتخلف الذي نحن فيه غارقون، كما أنها السبب الأول في تدهور قوتنا وابتعادنا عن روح العصر وتحدياته، ولم يعطوا لأنفسهم فرصة للتثبت مما دسه وروجه أساطين ودهاقنة الشر وأعداء وحدة الأمة وتقارب المسلمين.
وللحق فإن تاريخ العثمانيين ليس هو تاريخ الملائكة المنزلين ولا تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين، ولكنه تاريخ إسلامي مشرف ينبغي لكل أجيالنا أن تعرفه وتتمثله؛ فتاريخنا الحالي مرهون بالماضي؛ فلننطلق ليوم من أيام الله؛ حيث كانت الدولة العثمانية درع الإسلام وسيفه الذي سلَّه الله للفتح وردع المعتدين؛ حيث كان الإسلام حياً في النفوس، وعلى أساس الإسلام تبنى الدولة في كل شؤونها؛ فلننطلق لعصر السلطان (سليمان القانوني) الذي لا يعرف شبابنا عنه معشار ما يعرفونه عن نابليون وأمثاله.
تولى السلطان (سليمان) عرش الخلافة العثمانية في عام 1520م، بعد أن ورث أباه السلطان (سليم الأول) فاتح مصر والشام، والذي كان يسعى لإنشاء دولة إسلامية واحدة تمتد من أواسط آسيا إلى غرب أوروبا، ولكنه لم يتمكن من تحقيق ما أراد.
وفي السنة الأولى من حكم السلطان سليمان 1521م فتح جزيرة رودس التي كانت شجا في حلوق المسلمين، وكان بها أشد الصليبيين حنقاً على الإسلام وإيذاءً لأهله في البر والبحر. كانت رودس تحت حكم (فرسان القديس يوحنا) الذين عُرفوا في كتب التاريخ الإسلامي باسم فرسان المعبد (الداوية)، وكان الهجوم العثماني كما هي العادة قوياً وخاطفاً؛ حتى إن الغرب لم يشعر إلا وقد فتح المسلمون رودس، وكانت بحق قلعة الصليبيين في شرق البحر المتوسط تهدد شواطئ الإسلام وسفنه التجارية [ظلت طرابلس ليبيا تحت حكم الفرسان الصليبيين هؤلاء مدة سبعين سنة حتى طردهم منها العثمانيون].
وفي السنة الثانية 1522م قام السلطان الخليفة (سليمان القانوني) بفتح بلغراد أحد أهم مدن المجر آنذاك وهي من قلاع أوروبا الوسطى القوية، وتشتهر بحصانتها ومتانة أسوارها، وقد صدت أسوارها المنيعة الهجوم العثماني المتعدد عليها منذ عهد السلطان (محمد الفاتح)، ولكن الله قد ادخر هذا الفضل للسلطان سليمان القانوني الذي كانت أوروبا كلها تطلق عليه اسم سليمان المُعظَّم أو الفخم (Suliman the magnificent)، ولا ينبغي أن ننسى دلالة هذا الاسم في وقت كان الغرب كله يدور حول الكنيسة ووصفها للمسلمين بالكفرة الذين يعبدون محمداً -صلى الله عليه وسلم - ، ويملأ الغيظ والحقد قلوبهم عند ذكر اسم مسلم.
في السنة السادسة من حكم السلطان سليمان 1526م، كان الغرب الأوروبي يتشكل ككتلة عجيبة، كان أقوى ملك في أوروبا هو شارل الخامس (شارل كوان) وهو حفيد فرديناند وإيزابيلا اللذين قاما بطرد المسلمين من الأندلس، وقالت أم الملك المسلم الغرناطي الأخير أبي عبد الله الصغير الذي بكى حين رحلت به السفينة عن بلاده؛ قالت له أمه: أجل! ابكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال. ولكن الله لا يتخلى عن هذه الأمة، ولن يجعلها عاقراً من رجال صادقين؛ فلننظر بعدها بقليل ماذا حدث.
كان الملك الأسباني شارل الخامس يحكم كل أسبانيا وبعض البلدان في الأراضي الواطئة (من هولندا وبلجيكا وجوارهما) ونصف إيطاليا الحالية، ويحكم أخوه باسمه كل النمسا وألمانيا، وكانت أخواته متزوجات من ملوك: فرنسا، المجر، بولندا، وليتوانيا (وكانت دولة قوية متسعة) والسويد، وهكذا تهيأت أوروبا لتكون مسرحاً قوياً لحرب الإسلام وشوكة تهديد واستعمار لكل الشمال الإفريقي وأغلب بلاد العالم المعروف آنذاك؛ حيث كانت حركة الكشوف الجغرافية الصليبية التي أرادت خنق الإسلام في بلاده قد آتت ثمارها البغيضة القاسية، ولكن هكذا دبَّر الله قوانين الكون على أن يكون لكل مجتهد نصيب؛ فليجتهد المسلمون حتى لا يكونوا هم المفعول به دائماً، والله قد أراد المسلم فعّالاً إيجابياً لا كمّاً مهمَلاً.
رأى السلطان سليمان وإدارته أن أخطر حلقة في هذا العقد الجهنمي الذي يتكون في أوروبا هي دولة المجر التي تجاور الدولة العثمانية وتصل حتى حدود البوسنة حالياً؛ حيث كان ملك المجـر (لايـوش الثاني) بلا وريث؛ فإذا مات أو قُتل فسرعان ما تؤول مملكة المجر الضخمة لهذا الحلف الأوروبي المتناسق.
وكان القرار أنه لا بد من فتح المجر وضمها أو أغلبها للخلافة العثمانية أو تولية من يحفظها من الانضمام للغرب الأوروبي ويتبع الدولة العثمانية حتى لا تكون مصيبة على المسلمين.
في ذلك الوقت كانت الحملات العثمانية لا تستطيع أن تخوض المعارك في أوروبا إلا في أشهُر الصيف وخاصة يونيو ويوليو وأغسطس، ولكن السلطان سليمان خرج بجيشه البالغ تعداده مائة ألف جندي في شهر إبريل من عاصمة ملكه (إستانبول) وخرج معه مئات من السفن العثمانية النهرية الرفيعة تسير في الدانوب وتوصل المؤن للجيش المجاهد، وكان من تجهيزات الجيش العثماني المجاهد ثلاثمائة مدفع؛ ففي ذلك الوقت كان المسلمون هم من يمتلكون أحدث الأسلحة، نعم! كنا نحن الذين نمتلك التقنية المتفوقة والتكتيكات الحربية الرائدة، وبينما لم يكن الأوروبيون الصليبيون يستعملون المدافع في الحروب كانت الدولة العثمانية تستعمل هذا السلاح بحذق ومهارة شديدين كما سنرى.
وصل السلطان إلى نهر الدانوب (الطونة بالعثمانية) وكان أحد مشكلات الحملات العثمانية في أوروبا لسعته وتياراته وصعوبة عبوره. أمرالسلطان ببناء جسر حجري لعبور الجيش، فتم بناؤه في أربعة عشر يوماً، فعبر الجيش المجاهد عليه في أربعة أيام، ولما تم العبور بسلام، أصدر السلطان أمراً عجيباً؛ إذ أمر بهدم الجسر بنار المدفعية. أتعرف ما معنى هذا؟ إنه يعلن لكل الجنود أننا لن نعــود منهــزمين ومتعجلـين: إما النصر، فلا مشكلة في إعادة بنائه، وإما الشهادة فما عند الله خيرٌ وأبقى!
بعد عبور النهر صعد السلطان إلى بلغراد التي كان قد فتحها منذ أعوام قليلة، واستقبل تهنئات وتبريكات عيد الفطر في بلغراد، ثم واصل صعوده في أوروبا الوسطى حتى سهل (موهاج) المجري، ويقع جنوب شرق العاصمة بوادبست بحوالي مائة وثمانين كيلو متراً، وكان الجيش المجري من أفضل جيوش أوروبا الصليبية في ذلك الوقت، وتعداده مائتا ألف فارس ومقاتل، منهم أربعون ألفاً من أفضل القوات الألمانية المختارة، وفوق كل ذلك كان هناك الحماس الغربي الصليبي المتقد. كثير من المسلمين اليوم يظن أن الحملات الصليبية هي الحملات التسع المشهورة على البلاد العربية فقط، ولا يعلمون أن الدولة العثمانية صدت منذ القرن الرابع عشر الميلادي ما يزيد على خمس وعشرين حملة صليبية دموية. رحم الله العثمانيين؛ فقد كانوا درعاً للإسلام!
كان الجيش المجري يدافع عن دولة عريقة وسلالة حاكمة قديمة؛ فالعرش المجري كان عمره ثمانياً وثلاثين وستمائة سنة كاملة؛ فهي إمبراطورية راسخة، وكان الفرسان المجريون مشهورين بشجاعتهم وبسالتهم وشدة بأسهم.
تدارس القادة العثمانيون الأكفاء مع السلطان الخطة التي ينبغي عليهم سلوكها، وقد أخبرت فرق الاستطلاع أن السهل محاط بمستنقعات واسعة من بقايا أمطار الصيف؛ ففي أوروبا الوسطى تمطر السماء صيفاً أيضاً.
أراد العثمانيون أن يستفيدوا من هذه المستنقعات، فرسموا خطتهم بحيث يستدرجون الفرسان المجريين إلى مدى المدافع مع الحفاظ على كتل الجيش المجري بدون انتشار حتى تستطيع المدافع إصابتهم بأعنف الضربات وأكثرها مفاجأة.
وكانت الخطة أن ينقسم الجيش العثماني كالعادة إلى ميمنة وميسرة وقلب؛ ففي القلب يقف السلطان مع أفضل الجنود وأشجعهم وهم الإنكشارية (الجند الجديد) والذين كانوا رعب أوروبا لما يقرب من ثلاثة قرون، ويكون وقوف السلطان براياته وعلاماته أمام المدافع حتى إذا اندفعت القوات المجرية إلى ساحة الوغى وتوجهوا لقلب الجيش الإسلامي واقتربوا، عندئذ تتراجع صفوف الإنكشارية والسلطان إلى ما خلف المدافع، ثم تطلق المدافع بأقصى طاقتها، حتى إذا تشتتت الصفوف المجرية اندفع جناح الجيش الإسلامي ودفع ما تبقى من القوات المجرية إلى المستنقعات.
كانت التوقيتات في التواريخ العثمانية بأوقات الصلاة. دخل السلطان عند صلاة الصبح كذا، وبعد صلاة العصر فعل كذا وكذا.
لبس السلطان درعه في صلاة الصبح، ثم دخل إلى صفوف الصاعقة وهي القوات المسلمة القادمة من إمارات القرم والبحر الأسود الذي ظل بحيرة إسلامية حتى نهايات القرن الثامن عشر الميلادي ـ وكانت هذه القوات ـ الخيالة ـ تقوم بمرافقة الحملات العثمانية النظامية في أوروبا وروسيا، فيقومون بالغزو والجهاد متساندين يدعم بعضهم بعضاً [هذا في أيام التخلف والرجعية (زعموا)... إلخ] ـ وكان الدور الأساسي لفيالق الصاعقة هو حماية طرق اقتراب وسير الجيش العثماني وكذلك الاستطلاع وجلب الغنائم والأسرى وضرب عمق العدو.
كان السلطان الخليفة على رأس جيشه المجاهد في الميدان، كذلك كان الملك المجري على رأس جيشه الصليبي في الميدان ذاته ساعات.. ويتقرر مصير الأمتين والملكين.. هل سواء من كان في سبيل الله ومن كان في سبيل الطاغوت؟ بات المسلمون يقرؤون القرآن ويذكرون الله ويهللون ويكبرون (كانت أناشيد الجيش مليئة بالدعاء والتكبير حقيقة) ويذكِّرهم الدعاة والعلماء بفضل الجهاد وما أعد الله للشهداء.. وبات المجريون يدقون النواقيس ويحرضهم القساوسة والرهبان للدفاع عن الصليب وأوروبا ضد المسلمين الفاتحين.
آمين.