لقي رجل اسمه عبدالله رجلاً آخر اسمه عبدالنبي، فأنكر عبدالله هذا الاسم في نفسه، وقال: كيف يتعبد أحد لغير الله جل جلاله.
ثم خاطب عبدالنبي قائلاً له: هل أنت تعبد غير الله؟
فقال عبدالنبي: لا، أنا لا أعبد غير الله، أنا مسلم وأعبد الله وحده.
قال عبدالله: إذاً ما هذا الاسم الذي يشبه أسماء النصارى في تسميهم بعبد المسيح ـ ولا غرابة فإن النصارى يعبدون عيسى عليه السلام ـ والذي يسمع اسمك يتبادر إلى ذهنه أنك تعبد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا هو معتقد المسلم في نبيه، وإنما يجب عليه أن يعتقد أنه عبد الله ورسوله.
فقال عبدالنبي: ولكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم خير البشر وسيد المرسلين، ونحن نتسمى بهذا الاسم تبركاً وتقرباً إلى الله بجاه نبيه صلى الله عليه وسلم ومكانته عنده، فنطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة لمكانته عند ربه عز وجل، ولا تستغرب فإن أخي اسمه: عبدالحسين، وقبله أبي اسمه: عبدالرسول، والتسمي بهذه الأسماء قديم ومنتشر بين الناس، وقد وجدنا آباءنا على هذا، فلا تشدد في المسألة، فإن الأمر سهل والدين يسر.
قال عبدالله: وهذا منكر آخر أعظم من المنكر الأول، وهو أن تطلب من غير الله مالا يقدر عليه إلا الله، سواء كان هذا المسؤول هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو من دونه من الصالحين، مثل الحسين رضي الله عنه أو غيره، وهو منافٍ للتوحيد، ولمعنى لا إله إلا الله. وسوف أعرض عليك بعض الأسئلة ليتبين لك عظم الأمر، وتبعات التسمي بهذا الاسم وأمثاله، وليس لي هدف ولا مقصد إلا الحق واتباعه، وبيان الباطل واجتنابه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولكن أذكرك بقولـه عز وجل : {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وقولـه عز وجل : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.
عبدالله: أنت قلت أنك توحد الله، وتشهد أن لا إله إلا الله فهل لك أن تبين لي معناها؟
عبدالنبي: التوحيد هو أن تؤمن أن الله موجود، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه المحيي المميت المتصرف بالكون الرزاق.. إلخ.
عبدالله: لو كان هذا هو تعريف التوحيد فقط لكان فرعون وقومه وأبو جهل وغيرهم موحدين، لأنه ليس هناك أحد ينكر هذه الأمور التي ذكرتها، ففرعون الذي ادعى الربوبية كان يعترف ويؤمن في نفسه أن الله موجود وهو المتصرف بالكون، والدليل قولـه عز وجل: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقد ظهر هذا الاعتراف جلياً حين أدركه الغرق. ولكن التوحيد هو: إفراد الله بالعبادة، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والإله في (لا إله إلا الله) بمعنى: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له.
عبدالله: وهل تعلم لماذا أرسلت الرسل في الأرض، وأولهم نوح عليه السلام؟
عبدالنبي: لكي يدعو المشركين إلى عبادة الله وحده وترك كل شريك له عز وجل.
عبدالله: وما هو سبب شرك قوم نوح ؟
عبدالنبي: لا أعرف !
عبدالله: أرسل الله نوحاً إلى قومه لما غلوا في الصالحين ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر.
عبدالنبي: أتعني أن وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً هي: أسماء رجال صالحين وليست أسماء لجبابرة كافرين؟
عبدالله: نعم هذه أسماء رجال صالحين اتخذها قوم نوح آلهة، وتبعهم العرب في ذلك، ودليل ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (صَارَتِ الأوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ، أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لآلِ ذِي الْكَلاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ.
عبدالنبي: هذا كلام عجيب !
عبدالله: ألا أدلك على ما هو أعجب منه ؟ أن تعلم أن خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قد أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون، ويتصدقون، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة، وعيسى عليه السلام، وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق لله لا يصلح منه شيء لغير الله، فهو الخالق وحده لا شريك له، والذي لا يرزق إلا هو، وجميع السماوات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره، بل حتى الآلهة التي كانوا يعبدونها يعترفون أنها تحت ملكه وتصرفه.
عبدالنبي: هذا كلام خطير وعجيب، فهل من دليل عليه ؟
عبدالله: هناك أدلة كثيرة، منها قولـه عز وجل: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}، وقولـه عز وجل {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}. وكان المشركون يلبون في الحج بقولهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك). فاعتراف مشركي قريش بأن الله هو المتصرف بالكون، أو ما يسمى (توحيد الربوبية) لم يدخلهم الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، ولذا فيجب صرف الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستعانة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله.
عبدالنبي: إذا لم يكن التوحيد الذي دعت إليه الرسل هو الإقرار بأن الله موجود وهو المتصرف بالكون كما تزعم، إذاً فما هو ؟
عبدالله: التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون: هو إفراد الله تعالى بالعبادة، فلا يصرف شيء من أنواع العبادة لغيره كالدعاء، والنذر، والذبح، والاستغاثة، والاستعانة... إلخ، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عند مشركي قريش هو الذي يقصد لهذه الأمور السابقة الذكر سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو شجرة، أو قبراً، أو جنياً، ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرزاق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد: معناها لا التلفظ بها فقط.
عبدالنبي: كأنك تريد أن تقول أن مشركي قريش كانوا أعلم بمعنى لا إله إلا الله من كثير من المسلمين في هذا الزمان.
عبدالله: وهذا هو الواقع ـ وللأسف الشديد ـ فإن الكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالعبادة، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهاً وَاحِداً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، مع إيمانهم بأن الله هو المتصرف بالكون، فإذا كان جُهَّال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعنى، والحاذق منهم يظن أن معناه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجالٍٍ يدَّعون الإسلام، وجُهَّال كفار قريش أعلم منهم بمعنى لا إله إلا الله.